زايد راعي تراث الإمارات وجذورها القومية
منقول عن جريدة الخليج، الملحق الثقافي، تاريخ: 22/11/2004، للباحث: سلطان بخيت العميمي
بدءا من اليوم الأول لخلق أبينا آدم عليه السلام إلى يومنا هذا، ظهرت على سطح هذا الكوكب حضارات ودول كثيرة، حكمها رؤساء وقادة، منهم من استطاع أن يكتب المجد لشعبه وله، ومنهم من جر على شعبه ونفسه ويلات الحروب والدمار، ووصم اسمه وإنجازاته بالعار والسقوط في الفشل الذي لا يمكن أن يمحى من ذاكرة التاريخ. وللزعماء والقادة الذين صنعوا لشعوبهم ودولهم مجدا وتاريخا عظيمين، صفات لا يمكن أن يتحلى بها كل من يصل إلى دفة الحكم، فصفة القيادة أو إجماع الناس على حب قائد معين والولاء له، هي ميزة لا يمكن أن يتم صنعها أو اختراعها، أو حتى إجبار الناس عليها، ما لم تكن في هذا القائد، تلك الصفات التي تؤهله للعب هذا الدور بصورة طبيعية وتلقائية.
كان فقيد أمتنا، ومؤسس نهضة الإمارات، المغفور له والدنا الشيخ زايد هو من ذلك الصنف من القادة الذين أجمع الشعب على حبه قبل أن يتولى مقاليد الحكم في إمارته، وما ازدادوا إلا حبا له بعد أن تولى مقاليد الحكم فيها، حين أصبح حاكما لاتحاد ضم سبع إمارات.
وقد كانت له منذ توليه رئاسة الدولة إلى يوم رحيله، اهتمامات كبيرة بشعبه وتراثه وتقاليده، فما زاده ذلك من شعبه إلا قربا ومحبة، وأثبت مع الأيام أن الاهتمام بالتراث يؤدي دورا مهما في تشكيل ذاكرة الهوية الإماراتية ورسم ملامحها، وهو جزء لا يتجزأ من دستوره في قيادة شعبه ودولته.
وإذا نظرنا إلى ما أنجزه المغفور له الشيخ زايد في هذا الجانب، سنجد أن الأمر لا يعني إحصاء لمراكز أنشأها، أو أنشطة ومهرجانات تراثية وجه بإنشائها ورعايتها، بل إن الأمر أكبر من هذا، ويحتاج إلى كتب وأبحاث ودراسات عدة، يمكن على ضوئها معرفة منهجه وإنجازاته في هذا الجانب، ثم تحليل النتائج والمعطيات الحقيقية والضخمة التي ترتبت على سياسته الحكيمة في هذا الإطار.
لقد أدرك أن ماضي كل أمة هو جزء مهم في تشكيل حاضرها ومستقبلها، وقد كانت له في ذلك مقولة مشهورة وهي: (الأمة التي لا ماضي لها، هي أمة بلا حاضر ولا مستقبل)، ويكمل مقولته تلك التي يعبر من خلالها عن نظرته حيال أهمية التراث: (لقد كانت أمتنا والحمد لله غنية بماضيها التليد وحضارتها الزاهية الضاربة بجذورها في أعماق هذه الأرض عبر أحقاب طويلة من الزمن، لذلك، فإن هذه الجذور الأصيلة ستظل تورق في حاضر أمتنا المجيد ومستقبلها المرموق).
لننظر مثلا إلى هذه الكلمة التي وجهها للجنة التراث والتاريخ، وألقاها بعد مرور خمس سنوات من عمر الاتحاد: (إن إحياء التراث وتاريخ الجيل الماضي، فيه تعريف لأبناء الجيل الجديد، ليتعلم كيف استطاعت تلك الأجيال مواجهة جميع الظروف والتحديات الصعبة التي واجهوها.
إن تدوين أخبار تراث أمتنا وبلدنا لواجب ضروري، بل حتمي، حتى يعرف الناس ماضينا، وكيف كنا نعيش قبل أن ينعم الله علينا بالخير.
وإن على الجيل الجديد أن يقدر الدور الذي لعبه الآباء والأجداد في الأجيال الماضية، وأن يتخذ منهم القدوة والمثل الأعلى في الصبر وقوة التحمل والعمل الجاد والتفاني في أداء الواجب.
إن التاريخ سلسلة متصلة من الأحداث، وما الحاضر إلا امتداد للماضي، ومن لا يعرف ماضيه لا يستطيع أن يعيش حاضره ومستقبله.
فمن الماضي نتعلم.. نكتسب الخبرة، ونستفيد من الدروس والنتائج، فنأخذ الأفضل وما يناسب حاجياتنا الحاضرة، ونتجنب الأخطاء التي وقع فيها الآباء والأجداد.
إن العلم والتاريخ يسيران جنبا إلى جنب، فبالعلم يستطيع الإنسان أن يسطر تاريخه ويدونه ويحفظه للأجيال المقبلة، ليطلعوا عليه ويعرفوا ما قام به الأجداد والآباء.
وإن على أعضاء اللجنة - لجنة التراث والتاريخ - أن يضمنوا عملهم كل الحقائق، وأن يعملوا بدقة وموضوعية، وأن ينقلوا إلى العالم صورة واضحة حقيقية عن تاريخ وتراث دولة الإمارات العربية المتحدة).
لقد أوجز الشيخ زايد في هذه الكلمة، ما يمكن شرحه في مجلدات ودراسات ضخمة، فهو يتكلم عن أهمية التوثيق لحياة الماضي، وضرورة تثمين ما قام به آباؤنا وأجدادنا من صبر وتحمل لمصاعب الحياة في الماضي، وأهمية العمل الجاد والتفاني والإخلاص في سبيل رفعة الوطن وأداء الواجب.
ويشير إلى ضرورة الاستفادة من دروس الماضي، وأهمية تجنب الأخطاء التي وقع فيها أجدادنا وآباؤنا، كما تحدث عن ارتباط العلم بالتاريخ، وأكد أهمية الالتزام بالدقة والموضوعية في التوثيق لتاريخ المنطقة، ونقل الصورة الحقيقية الواضحة عن تاريخ الإمارات.
إن في هذه الجمل المختصرة التي عبر عنها في كلمته، دلالة على بعد نظر القائد، وعلى فهم عميق لكيفية تناول التراث والتعامل مع التاريخ، بصورة ينادى اليوم بتدريسها وتطبيقها في أرقى جامعات العالم.
ومن أقواله في أهمية التمسك بالتراث والتقاليد الأصيلة: (إننا نحرص على الاحتفاظ بتقاليدنا العربية الأصيلة، وتراثنا القومي، وهي تقاليد نحبها، توارثناها عن الأجداد عبر أجيال طويلة، إنها منقوشة في الصدور، وسنحرص عليها دائما مهما يكن خطونا إلى ميادين الحضارة.
إن الأمة العربية عريقة بماضيها العريق، وهو ماض يحق لها أن تفاخر به أمم الأرض كلها.. ومنه نستمد النور الذي يضيء أمامنا طريق المستقبل.
إننا نحب أن نجلب لأنفسنا وأمتنا ووطننا الأشياء التي تناسبنا والتي نحتاج إليها، أما الأشياء غير المناسبة، فنحن ننبذها، ونبعد أنفسنا عنها ونتركها).
وفي هذه الدعوة المبكرة أيضا، نجد ذلك الفهم الحضاري لبناء المجتمعات والبشر، ودعوته للحرص على عدم التخلي عن التراث والتقاليد، وكذلك اختيار الجيد والمناسب من مظاهر التطور والحضارة، نجده حاضرا في الدعوات الحالية لمواجهة خطر العولمة وآثارها على هوية الشعوب وعاداتها.
وفي كلمة أخرى، عبر فيها عن أهمية مواكبة التطور بصورة لا تفصلنا عن جذورنا وهويتنا، قال: (أنا لا أقول إننا يجب أن نبتعد عن المدنية الحديثة، فنحن نريد منها أشياء، ونريد أن نبتعد عن الأشياء الأخرى، أريد أن نستفيد بما فيها من منافع، وننبذ المساوئ ونبتعد عنها.
نريد العلم.. نريد الثقافة.. نريد الخبرة التي نحتاج إليها من كل مكان، لمعاونتنا في تحقيق النهضة لبلادنا، وهدفنا بناء الجيل الجديد، الذي يستطيع أن يتحمل مسؤولياته في بناء بلده.. نريد جيلا يحتفظ بعاداته وتقاليده الأصلية).
هكذا عبر حكيم العرب رحمه الله عن هاجس الاهتمام بالتراث والتقاليد، وكان لما نادى به اهتمام كبير من قبل شعب الإمارات، الذي بادله هذا التمسك بالجذور والهوية المحلية الأصيلة.
ولعل في المراكز الثراثية والمسابقات والمهرجانات التي تقام سنويا في هذا الإطار، لخير دليل على نجاح الدعوة. وبتشجيع ودعم منه، ظهر نادي تراث الإمارات الذي تأسس في مايو 1993 برئاسة سمو الشيخ سلطان بن زايد آل نهيان نائب رئيس مجلس الوزراء، وتفرعت منه مراكز عدة، منها مركز زايد للتراث والتاريخ، كما صدرت عن النادي العديد من الدواوين الشعرية والكتب التي تبحث في تراث دولة الإمارات.
وفي عام 1985 تم إشهار جمعية إحياء التراث الشعبي التي تهدف إلى المحافظة على التراث وإحيائه وإظهاره أمام الأجيال المتعاقبة كي يتفهموا كيف كان يعيش أجدادهم وإلقاء الأضواء على العادات والتقاليد المتوارثة.
وقد أنشأت الجمعية قرية زايد للتراث الشعبي التي تعد اليوم مَعلماً سياحياً مهماً في أبوظبي يقدم مفردات الحياة التقليدية القديمة قبل النهضة التي شهدتها البلاد.
صيد الصقور
اهتم المغفور له الشيخ زايد اهتماما كبيرا برياضة صيد الصقور، وكان يجد في رحلات القنص الكثير من المتعة التي يخرج من خلالها إلى التعايش مع الطبيعة وأسرار الصحراء، وعن هذه الرياضة يقول: (إن هذه الرياضة وسيلة للتخلص من هموم العمل اليومية وجلي النفس، فضلاً عن أهميتها في اكتساب مهارات بدنية واجتماعية). وقد عد هذه الرياضة من الوسائل التي يتواصل فيها مع أبنائه وإخوانه المواطنين، ويعرف من خلالها آمالهم وتطلعاتهم ورغباتهم.
وكانت ممارسته لهذه الرياضة في وقت مبكر من عمره، ويقول في ذلك: (منذ زمن مضى، وكان عمري في ذلك الوقت حوالي اثني عشر عاما، كنت أتصيد بالبندقية، وأذكر وقتها أنني لصغر سني، كنت لا أقوى على حملها كثيرا، بل كنت أعتمد حينما أضرب بالبندقية على ساترة أو أي شيء آخر، لقد أحببت القنص وأخذت أمارسه، وأخرج كثيرا للصيد مع من هم أكبر مني سنا وأتعلم منهم، وحينما بلغت السادسة عشرة، كنت قد تعلمت الصيد بالصقور، فشرعت أزاول الصيد بالاثنين معا، بالبندقية حينا وبالصقر حينا آخر، وحينما بلغت من العمر الخامسة والعشرين، وكان قد مضى علي وقت من الزمن في تعلم أصول الصيد وفنونه، في هذا الوقت فضلت الصيد بالصقر على ما عداه، وأقلعت عن استخدام البندقية في صيد الحيوان، وكان لهذا التحول سبب في نفسي.
في ذات يوم، ذهبت لرحلة صيد في البراري، وكانت الطرائد قطيعا وافرا من الظباء يملأ المكان من كل ناحية، فجعلت أطارد الظباء وأرميها، وبعد حوالي ثلاث ساعات، قمت أحصي ما رميته من الظباء، فوجدته أربع عشرة ظبية، عندئذ فكرت في الأمر طويلا، وأحسست أن الصيد بالبندقية إنما هو حملة على الحيوان، وسبب سريع يؤدي إلى انقراضه، فعدلت عن هذا الأمر، واكتفيت بالصيد بالصقور، وثمة شيء آخر أغراني بحب هذه الرياضة، ذلك أنها رياضة جماعية أكثر من كل أنواع الرياضة الأخرى، يضاف إلى ذلك أنها رياضة نفسية وبدنية).
وقد سأل أحد الصحافيين الشيخ زايد في إحدى رحلات القنص: (هل تذهبون كل عام في رحلات للقنص؟ وهل هذه الرحلات للراحة؟) فأجاب زايد: (القنص لا راحة فيه، إنه يعلم الجلد والصبر، وليس فيه رفاهية ولا ترفيه، وأنا أحب القنص لأنه يجمع بين الصغير والكبير، وفي رحلة القنص نمر بأراض وصحار شاسعة، فيها من البشر من لم نرهم، نسمع كلامهم ببساطة ونختلط معهم، نعيش حياتهم ونستفيد منها، نستفيد من حياة هؤلاء الذين يعيشون على الطبيعة).
وأضاف: (إنني أجد في القنص ما يشغل الفكر عما نعيشه طوال العام من مسؤوليات ومهمات وصعوبات، استعدادا لعام جديد بكل ما فيه من مشاغل وطموحات، وما ينتظرنا من واجبات).
وقد ألف المغفور له الشيخ زايد كتابا ومرجعا مهما عن تاريخ رياضة الصيد بالصقور في عام ،1976 ويعد هذا